Page Nav

الهيدر

Grid

GRID_STYLE

اخبار عاجلة

latest

التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب

التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب مقدمة : أضحت الجماعات المحلية المغربية في الآونة الأخيرة إحدى المحددات الرئيسية لل...

التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية بالمغرب
مقدمة :

أضحت الجماعات المحلية المغربية في الآونة الأخيرة إحدى المحددات الرئيسية للتدخلات العمومية في مختلف مظاهر الحياة العامة للدولة.

ولم تأت هذه الأهمية بمحض الصدفة ولا من فراغ، بل كانت نتيجة طبيع ي ة لتطورات وطنية ودولية أملتها ظروف ومعطيات معينة أفرزت لنا وحدات ترابية مبادرة، نشيطة، فعالة وساهرة على تدبير الشأن العام المحلي ومساهمة في القضايا الكبرى للبلاد.

 ومن جملة تلك الظروف المتحكمة في تنامي دور الجماعات المحلية، ما يتعلق بالعوامل الدولية والمتجلية أساسا في انتشار الفكر الديمقراطي والمشاركة السياسية ودعائم دولة الحق والقانون التي تدعو إلى إشراك الساكنة المحلية في جميع المبادرات التي تهم الشأن العام المحلي حتى تكون أكثر إسهاما في التعاطي مع الرهانات المطروحة عليها.

وإلى جانب ذلك، ساهمت العولمة بكل تجلياتها في تجاوز المفهوم التقليدي للحدود المتعارف عليها إلى مفهوم أكثر امتدادا وشمولا للمعرفة والاقتصاد والسوق بحيث لا تعترف بالجهود الانفرادية للدولة المركزية، بل تضع من الفكر التشاركي إحدى المبادئ الأساسية للتنمية المستديمة.


كما جاءت التوصيات الصادرة عن الهيآت المالية الدولية كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي لتحث الدولة على إشراك فاعلين اقتصاديين آخرين لحل إشكالية التنمية والنمو ، وفي هذا الصدد يمكن التذكير مثلا بالتقرير الشهير للبنك الدولي سنة 1995 بخصوص وضعية الإدارة المغربية، والذي من جملة ما دعا إليه هو البحث عن أدوار جديدة للجماعات المحلية وتقوية مساهمتها في تدبير الشأن العام المحلي والوطني.

 وإذا كانت العوامل الدولية قد ساهمت بشكل كبير في تنامي الجماعات المحلية للعب دور أكثر ديناميكية، فإن المعطيات الداخلية كرست أيضا هذه الطفرة نتيجة عدة أسباب من بينها تراجع دور الدولة بسبب أزمة القطاع العام وتزايد النفقات العمومية وسوء التسيير ، زيادة على مشكل المديونية وضعف مؤشرات الاقتصاد وانتشار الفقر والأمية والإقصاء الاجتماعي.

كما أن القطاع الخاص اتسم ولفترات طويلة بالهشاشة وضعف ومحدودية تدخلاته، علما أن المشاريع التي تبرمجها الدولة تحتاج إلى تكلفة كبيرة وإمكانيات جد هامة عادة ما تتجاوز إمكانيات القطاع الخاص.

وإلى جانب هذا، منحت القوانين المؤطرة للجماعات المحلية ولا سيما الأخيرة منها عدة إمكانيات للتدخل الاقتصادي إما بشكل مباشر أو بالدخول في شراكة مع فرقاء وفعاليات أخرى أو الإنفتاح كليا على القطاع الخاص.

إلا أنه، وبالرغم من هاته العوامل المساعدة والمحفزة لدور الجماعات المحلية في تنشيط الحياة الاقتصادية المحلية ودخول مجال التنافسية والاستثمار والانفتاح على المبادرات الخارجية، فلازالت هناك عدة رهانات جد مهمة تتطلب التعبئة والتخطيط. فالنمو السكاني بالمغرب انتقل من 15.379.254 نسمة سنة 1971 إلى 29.892.000 نسمة سنة 2004 . كما أن معدل التحضر ارتفع في نفس الفترة من %35 إلى %55,1 ، ويتوقع أن تبلغ ساكنة المغرب في سنة 2014 رقم 35 مليون نسمة بمعدل للتحضر يصل إلى  %65 .

وبالنظر إلى حجم هذا النمو، فإن الأمر يتطلب تجهيز حوالي 3000 هكتار سنويا قصد الاستجابة لحاجيات الأسر بإقامة مساكن وتجهيزات ومناطق للأنشطة الاقتصادية التي تحتم سنويا تعبئة 1,8 مليار درهم.

 وإذا أخذنا كذلك على سبيل المثال حاجيات الساكنة من التطهير السائل وتصفية المياه العادمة، فإنه يجب تعبئة أكثر من 20,7 مليار درهم، أي ما يعادل ملياري درهم سنويا إلى غاية 2015.

إن اعتبار الجماعات المحلية كشريك للدولة إلى جانب المؤسسات العمومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني، يحتم ولاشك أن تقوم هذه الجماعات بأدوار كبيرة ومتنوعة على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

غير أنه بالرجوع إلى تجربة الجماعات المحلية طيلة الأربع عقود التي خلت، نجد أنها مازالت تعاني من إكراهات كثيرة وصعوبات عميقة نتيجة عوامل متداخلة ومعقدة. فالإطار المؤسساتي غلب عليه التسيير التقليدي نتيجة سوء التنظيم وتبذير الإمكانيات وطاقات الجماعة عوض استثمارها في مجالات وقطاعات منتجة تعود بالنفع على الساكنة. كما أن النصوص القانونية المحلية عانت بدورها من العمومية والمصطلحات الفضفاضة وتداخل في الاختصاص والمسؤوليات. وقد زاد من ضعف مردودية الوحدات اللامركزية محدودية كفاءة الموارد البشرية، سواء تعلق الأمر بالمنتخبين أو الموظفين المحليين اللذين بقوا قيد الإطار الكلاسيكي لتسيير الجماعات والمحددة أساسا في تقديم الشواهد الإدارية والأعمال اليومية الروتينية.

وإلى جانب هاته الإكراهات، فقد شهدت الجماعات المحلية امتدادا مجاليا واسعا، لكن بتوزيع مختل وغير منظم بسبب النقص في البنيات التحتية والتجهيزات، وتدهور المرافق العمومية، خاصة في مجال إيصال الماء والكهرباء والتطهير، وكذا مشاكل على صعيد قطاع النقل وضعف وسائل النقل العمومي.

ولم يخرج المجال العمراني عن هذه الاختلالات، إذ شهدت بعض المدن توسعا مضطردا في البناء العشوائي وانتشار مدن الصفيح والسكن غير اللائق وغياب الجمالية المعمارية المحلية والمتوازنة وتدهور المحيط البيئي، وقد ولَّدت هذه الوضعية ظاهرة خطيرة تجلت بالخصوص في الإقصاء الاجتماعي وتفكك النسيج الحضري والتباين الصارخ بين المدينة والضاحية، بل وداخل المدينة الواحدة والحي الواحد.

انطلاقا من المعطيات السابقة، يتبين لنا أهمية الموضوع حيث أن الحاجة أصبحت أكثر إلحاحا في تغيير مقاربة الدولة للجماعات المحلية كوحدات ترابية إدارية إلى جماعات اقتصادية تنافسية، تقوم بتنشيط الدورة الاقتصادية المحلية، وكأحد الشركاء الرئيسيين للدولة في المبادرات الكبرى وإنعاش الاستثمارات وحل المشاكل الاجتماعية.

  غير أنه لتحقيق هذه القفزة النوعية، فمن الضروري تغيير طريقة تسيير الشأن العام المحلي، وذلك بالانتقال من النظرة التسييرية الضيقة إلى المقاربة التدبيرية الحديثة والمتجددة.

وقبل الخوض في ثنايا المقاربة الجديدة للتدبير المحلي، يتعين الوقوف عند جوانبها المفاهيمية. وهكذا عرف التدبير العمومي بأنه "مجموعة من المفاهيم المساعدة على اتخاذ القرار تتكيف في جزء منها مع المجال العمومي، وكذا مناهج للتسيير مستقاة مباشرة من القطاع الخاص (محاسبة تحليلية، رقابة تسيير ...) مع إدماج الأنظمة المعلوماتية". كما ذهب فريق آخر إلى تعريفه بأنه " المجهود المبذول لتكييف البنيات الإدارية ومناهج عمل الإدارة مع المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي العالمي".

إذن فالتدبير العمومي "يقدم آليات تتكيف والنظرة الواقعية لتصريف الشأن العام، بمناهج مختلفة وملائمة حسب نوعية المهام المنوطة والمشاكل المطروحة، وربط حوار التواصل مع المحيط العام" .

وقد حاول أحد الباحثين تفصيل مظاهر التدبير العمومي في المحاور التالية :

·   رصد الأهداف المحددة والعمل على تحقيقها؛
·   الاستعمال المعقلن للموارد المتاحة البشرية والمادية؛
·   التقيد بمضمون الدورة التنظيمية، وتشمل على:

ü      التنظيم؛
ü      التخطيط الاستراتيجي؛
ü      التدبير العلائقي؛
ü      التوجيه والتتبع؛
ü      التقييم والتقويم.

ويتم تجسيد هذه المحاور عبر ثلاثة مستويات أساسية:

- المستوى الإستراتيجي: يتم تحديد السياسات العامة والخيارات الأساسية وبرامج العمل والأولويات والبرامج المستعجلة؛

- مستوى التدبير الإداري: يهدف بالأساس إلى عقلنة استعمال الموارد المالية والبشرية للمسؤوليات والأدوار وتوخي النجاعة والمردودية عند تنفيذ السياسات العمومية؛

- المستوى الإجرائي: ترجمة الأهداف المسطرة والمحددة على أرض الواقع مع التحديد الجيد.

واستنادا إلى هذه المعطيات، فإن التدبير "يهدف إلى تعبئة الطاقات والقدرات والتواصل الداخلي ومسايرة التغيير وعقلنة الوسائل عن طريق تبني تقنية اللجن واختيار البنيات التنظيمية، وتحديد الأدوات الإستراتيجية". كما يتوخى الفعالية والتنافسية والجودة والمردودية.

وفي هذا الصدد، هناك اعتقاد على أن المبادئ التي يقوم عليه التدبير العمومي ظهرت في القطاع الخاص وبالأخص في المقاولات العمومية. لكن، هناك من يرى على أن التدبير العمومي سابق على التدبير الخاص، بدليل استعمال مفاهيم مستمدة من المجال العسكري، حيث أن جل تقنيات التدبير التي طورت في القرن العشرين استلهمت من الميدان العسكري كمفهوم الإستراتيجية مثلا. في حين، هناك من يرجع مفاهيم القيادة والتنظيم إلى حضارات جد قديمة كالصين واليونان والرومان .

وبغض النظر عن هذه التعاريف والجذور التاريخية، وفي خضم التحولات الكبرى التي تشهدها بنيات الدولة وتجدد أدوراها، تعالت الدعوة إلى تطوير النظام اللامركزي الذي يستند على الشرعية الإدارية والعقلانية القانونية، وذلك بتبني منظور جديد ومقاربة مغايرة تجمع بين تعزيز المكتسبات السياسية، وتوخي البعد التدبيري وذلك من خلال ترسيخ مفهوم إدارة القرب، وإعادة اكتساب الثقة في الفعل العمومي من قبل القوى الحية سواء القطاع الخاص أو جمعيات المجتمع المدني، الأمر الذي يدفع إلى إعادة تأسيس قواعد لعبة سياسة تحتم الشفافية والمساءلة والإشراك والإسهام .

وإدراكا لهذا، وقصد تأهيل النسيج الحضري والرفع من مستوى الخدمات التي تقدمها الجماعات المحلية وتطوير أساليب عملها لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة، ولضمان ربح التنافسية، خاصة في زمن العولمة والانفتاح على الأسواق، جاء الإطار العام المنظم للامركزية الترابية ليأسس ثقافة جديدة تنبني على أسس الحكامة الجيدة ومبادئ التدبير العمومي عبر ترسيخ ديمقراطية القرب وتدعيم مجال المسؤوليات المحلية، وذلك بناء على عدة محددات ثابتة وأخرى مواكبة.

ويأتي الجانب القانوني في مقدمة هذه المحددات، إذ هو العنصر الأول والمؤسس لنوعية الأدوار التي سوف تقوم بها اللامركزية الترابية. وفي هذا الصدد عمل واضعوا قانون الجماعات المحلية خاصة من خلال القوانين الأخيرة على إدخال مجموعة من التدابير التنظيمية والمؤسساتية القائمة على أسس التدبير العمومي حيث تم توسيع وتوضيح اختصاصات المجالس المحلية ورؤسائها، وذلك بالتنصيص على اختصاصات ذاتية وأخرى محولة من الدولة إلى الجماعات وثالثة استشارية. ونفس الشيء يقال عن اختصاصات الرئيس والتي عرفت توسعا من جهة وتقنينا في علاقتها مع السلطة المحلية من جهة أخرى.

ومن بين المقتضيات الأخرى التي عرفتها القوانين الأخيرة المنظمة للجماعات المحلية ما يتعلق بتحسين تسيير المجالس المحلية وأجهزتها المساعدة وتحسين النظام القانوني للمنتخب الجماعي.

كما كانت القوانين الأخيرة أكثر ايجابية عندما جاءت بتصور جديد لتدبير نظام المدينة محاولة بذلك تجنب سلبيات التي اعترت نظام المجموعات الحضرية خاصة المتعلقة بتداخل الاختصاصات والتفاوتات المالية والاقتصادية وتشتت الطاقات والجهود، وذلك بأخذ نظام موحد للمدينة يقوم على   أساس مجلس جماعي ومجالس مقاطعات قصد وضع تصورات شاملة ومتكاملة للتنمية في قالب يغلب عليه التخطيط الاستراتيجي المتعدد السنوات.

إن نجاح التدبير الاقتصادي للجماعات المحلية يمر حتما عبر توفير شروط التدخلات الاقتصادية سواء المباشرة أو في إطار التعاون والشراكة. وهكذا جاء النظام القانوني بجملة من الإجراءات المحفزة، حيث استبدل نظام النقابات بمفهوم أكبر تعبيرا وهو مجموعة الجماعات وكذا تحفيز الجماعات المحلية بجميع أصنافها على التعاون فيما بينها كلما كان هناك عمل مشترك أو تدبير مرفق ذي فائدة مشتركة. كما عمل المشرع على ضبط المقتضيات المنظمة لها كالاتفاق على موضوع المجموعة ومقرها وآجالها وتسميتها وطبيعة ومبلغ المساهمة المالية، وكذا مسطرة الإنسحاب من المجموعة أو حلها.

وفي هذا الصدد، إذا كان التدبير العمومي للأنشطة الاقتصادية المحلية مهم، فإن المقاربة التدبيرية التشاركية تشكل مستقبل عمل الجماعات المحلية. فمظاهر تعقد المدينة المغربية كثيرة ومتنوعة والحاجيات في تزايد مستمر، الأمر الذي يفرض تعبئة الطاقات وجمع الإمكانيات وفق منهجية محكمة ومتكاملة.

وهكذا فقد تعددت أشكال الشراكة وأفرزت نماذج متعددة، من بينها الشراكة بين الجماعات المحلية والإدارات المركزية والمؤسسات العمومية. وقد وجدنا لهذا الإطار  انتشارا مهما سيما في مجال توزيع الماء والكهرباء ومحاربة السكن غير اللائق والمجال الصحي والتعليمي.

كما شكل التعاقد بين الجماعات المحلية والقطاع الخاص أحد الأشكال المتطورة للشراكة، حيث يساهم القطاع الخاص في إنجاز العديد من المشاريع المبرمجة إما بشكل مباشر أو بتعاون مع الجماعات. وهذا الأسلوب لا يشمل المنعشين العقاريين فقط، بل يمتد إلى أكبر من ذلك بالتعاقد مع شركات كبرى للنقل الحضري وتوزيع الماء والكهرباء أو النظافة وذلك في إطار عقود الامتياز أو التدبير المفوض.


وللإشارة، فإن مظاهر التعاون والشراكة لا تشمل فقط الحدود الجغرافية للوطن، بل تمتد حتى خارجه، إذ يمكن للجماعات المحلية المغربية إبرام اتفاقيات التوأمات والتعاون اللامركزي والانخراط في أنشطة المنظمات المهتمة بالشؤون المحلية وكل أشكال التبادل مع الجماعات الترابية الأجنبية بعد موافقة سلطة الوصاية.

إذن، فالإطار القانوني جد محفز وجاء أكثر ايجابية من سابقيه. غير أنه يحتاج في تفعيله إلى محددات أخرى وعلى رأسها الوسائل المادية والبشرية.
ومن بين الوسائل المادية التي تؤثر في الحركة الاقتصادية المحلية نجد المالية المحلية، حيث قام المشرع بعدة إصلاحات إذ منح الجماعات المحلية عدة موارد ذات طبيعة جبائية أو غير جبائية كالأملاك. كما سمح لها باللجوء إلى الاقتراض من صندوق التجهيز الجماعي، دون أن ننسى استفادتها من أجزاء من الضرائب الوطنية كالضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة والضريبة على الشركات حسب القوانين المعمول بها في هذا الشأن.
إن التحدي الذي تعرفه المالية المحلية مرتبط أساسا بعاملين أساسيين: الأول يخص تدعيم نسبة استقلالية ميزانية الجماعات المحلية عن إمدادات الدولة، والثاني يتعلق بتقليص مصاريف التسيير التي تهيمن على الميزانيات المحلية، والتي لا تترك هامشا كبيرا للاستثمار والتدخل الاقتصادي.
ومن جهة أخرى فحسن تدبير الجماعات المحلية لا يرتبط فقط بالجانب المالي. بل يشكل التحكم في التوسع العمراني لوحداتنا الترابية احد المؤشرات المهمة لإنجاح ذلك التدبير. فعدم ضبط الامتداد الترابي للمدينة قد يخلق أشكالا ومظاهر متعددة، حيث أن جل المدن فاقت بكثير التوقعات المجالية والزمنية التي حددتها وثائق التعمير، مما يشكل حجرة عثرة لتنمية الوحدات الترابية
وآنطلاقا من هذا، فإن الأمر يتطلب مقاربة جديدة لتوسع مدننا بتبني منظور شمولي تشاركي يتجاوز تدخلات القطاع الواحد والإدارة الواحدة نحو بناء مشروع حضري متكامل الجوانب ومرتبط بالتنمية.
وللوصول إلى هذا الهدف، يجب تأطير الجماعات بمخططات إستراتيجية متوسطة وبعيدة المدى وديمقراطية. وذلك بالإعداد التشاوري من قبل جميع المتدخلين من جماعات ومؤسسات عمومية وإدارات مركزية ومجتمع مدني وذوي الخبرة والدراية بالموضوع، مع تحديد الوظائف وتقنين العلاقة بين الشركاء المتدخلين في إطار وضع الاختيارات التنموية وتحديد الميادين التي تحظى بالأولوية.
وتجدر الإشارة إلى أن توفر الجماعات المحلية على إطار قانوني يسمح بالتدبير الاقتصادي ووسائل مالية وتقنية تبقى غير كافية في غياب عنصر بشري كفء، يبلور هذه المؤهلات على أرض الواقع ويخرجها إلى حيز الوجود. فمستوى الموارد البشرية يعتبر من بين المؤشرات المعتمدة في تقييم الأمم وقياس رخائها. كما تشكل حجر الزاوية والركن الأساسي للتنمية الشاملة والمستديمة، إذ كثيرة هي الشعوب التي تتوفر على كافة مقومات نجاح الدولة من ثروات طبيعية وموقع جغرافي وإرث تاريخي وحضاري، غير أنها تصنف ضمن الدولة المتخلفة والسبب في ذلك يرجع إلى تخلف مواردها البشرية.
وإدراكا لهذا، وفي إطار الاختصاصات الكبيرة والواسعة الممنوحة للجماعات المحلية، ولضمان النجاح في رفع التحديات التي تتطلبها التنمية، فإن الأمر يبقى رهينا بمستوى المنتخبين المحلين الذين يملكون المبادرة ويحددون السياسة العامة لجماعتهم المحلية ويخططون لبرامجها. لذلك فكلما كان مستوى المنتخب راق كلما كان عطاء الجماعة أكثر مردودية وإنتاجية. وما يساعد على تأهيل المنتخبين هي سياسة التكوين المستمر التي تهتم بعدة وسائل منها عقد دورات تدريبية داخل الوطن أو خارجها وكذا انفتاح الجماعات المحلية على المحيط السوسيوثقافي كإبرام اتفاقيات مع الجماعات المغربية قصد التكوين، زيادة على دور المناظرات الوطنية للجماعات المحلية كملتقى لاستعراض الخبرات وتبادل المعارف والتجارب والرؤى وطرح الإشكاليات التي تعاني منها الإدارة المحلية، ومن ثمة البحث عن الحلول ووضع استراتيجيات وخطط العمل الممكنة.
ولا يقتصر الإهتمام التي توليه الدولة للعنصر البشري المحلي على الهيئات المنتخبة فقط، بل يمتد الأمر إلى الموظفين الجماعيين الذين يسهرون على تنفيذ قرارات المجالس التداولية للجماعات المحلية. وفي هذا الصدد، قامت هذه الجماعات بمجهودات كبيرة في توظيف الأطر الإدارية والتقنية العليا والمتوسطة. كما عملت الوزارة الوصية على إحداث عدة مؤسسات متخصصة في مجال التكوين وكذا عقد ندوات تأطيرية على المستوى الجهوي شملت على سبيل المثال مواضيع الحالة المدنية والشرطة الإدارية وتدبير الميزانية وإعداد وتدبير مشاريع التنمية.
غير أنه إلى جانب المحددات القانونية والبشرية والمادية، فإن التدبير الاقتصادي المحلي يحتاج إلى مقومات نوعية جديدة ترسخ الحكامة الجيدة. ويمكن الإشارة على وجه الخصوص إلى الشفافية والتواصل والإدارة الالكترونية وتبسيط المساطير الإدارية كما تشكل الدعامات ذات الطبيعة الرقابية من بين الإجراءات المهمة التي تساعد في تحقيق تدبير اقتصادي محلي فعال حيث تسمح بتتبع وتقييم العمل المحلي من حيث معرفة مظاهر القوة والضعف التي تمكن من تحديد مستوى أداء الجماعات المحلية وكيفية التعاطي مع الرهانات المطروحة. ومن بين تلك الدعامات يمكن الإشارة إلى مراقبة التسيير والتدقيق الداخلي. فهذه الآليات الأخيرة وإن ظهرت في البداية في القطاع الخاص، إلا أن إدخالها ضمن المنظومة العامة للإدارة الترابية سوف تمكن من تحديث الإدارة المحلية وجعلها أكثر احترافية في خلق الثروة وتنشيط الحياة الاقتصادية والتأثير في القرارات الكبرى للدولة.
وتبدو من خلال ملامسة أهمية الموضوع، الملامح الأولى لعناصر الإشكالية المراد تحليلها عبر مراحل هذا البحث، على اعتبار أن الجماعات المحلية تشكل مستوى مهما لحل مشاكل التنمية. وعليه يمكن طرح الإشكاليات التالية: كيف يمكن تحقيق تدبير اقتصادي فاعل وفعال؟ وهل الإرادة السياسية والجوانب القانونية كافية أم أن الأمر يحتاج إلى وسائل مادية وبشرية متطورة؟ وهل الآليات المرتبطة بالتدبير العمومي المحلي بإمكانها حل إشكالية التنمية والتدخل الاقتصادي أم أن تعقدات مظاهر التسيير الجماعات وتزايد حاجيات السكان تدفع إلى التفكير في آليات أخرى كالشراكات المختلفة سواء مع الإدارات العمومية أو القطاع الخاص والمجتمع المدني؟ وإلى أي حد استطاعت النجاح في ذلك؟ وما هي آفاق تأهيل الجماعات المحلية لربح الرهانات المطروحة عليها؟ وما مدى استعدادها للدخول في عالم العولمة وانفتاح الأسواق؟
وللإجابة على الإشكالية الرئيسية والإشكاليات الفرعية والمتسمة بتشعب محاورها نظرا لتنوع حقول المعرفة التي تشكل منطلقاتها، وجب الإستعانة ببعض مناهج البحث التي من شأنها الإسهام في تحديد الإشكالية والإحاطة بمختلف جوانب الموضوع.
ولهذه الغاية فقد سعينا إلى توظيف المنهج التاريخي الذي ميز تطور الشأن العام المحلي في ارتباطه بتسيير السلطات العمومية سواء بالدول الأجنبية أو داخل المغرب وذلك إيمانا منا أن دراسة ادوار الجماعات المحلية ومهامها المستقبلية لا يجب أن تغيب امتدادها التاريخي للارتباط الوطيد القائم بين الماضي والحاضر.
كما عمدنا إلى الاستعانة بالمنهج الوصفي التحليلي الذي يعتمد على المقاربة النصية لمختلف المقتضيات القانونية ذات الصلة بالموضوع سواء بشكل مباشر كالنصوص المنظمة للجماعات المحلية أو بشكل غير مباشر كالقوانين المؤطرة للمالية المحلية والموارد البشرية والمحاسبة والأملاك، لكن مع دراسة الأسباب والدوافع ومختلف العوامل المؤطرة في فعل الجماعات المحلية.
ولمعرفة مستوى تطور جماعاتنا المحلية وأدائها وحصيلتها وبحث سبل دعمها، ارتأينا توظيف المنهج المقارن الذي يسمح بإلقاء النظر على بعض الدول الناجحة في إقامة لامركزية ترابية حقيقية وبالتالي الاستفادة من تجاربها والانجازات المحققة وخطط عملها، وقد ركزنا بهذا الخصوص على النموذج الفرنسي نظرا للتشابه نوعا ما مع نظيره المغربي دون أن ننسى في بعض الأحيان الإشارة إلى بعض التجارب الأخرى من قبل التجربة الألمانية أو الإسبانية.
وبالنظر إلى المزايا التي يقدمها المنهج التحليلي والمنهج الإحصائي في إعطاء نظرة واضحة على كل قطاع وعن الوسائل والآليات ومختلف الجوانب المرتبطة بعمل الجماعات المحلية، فقد عمدنا إلى الاستعانة بأرقام وإحصائيات جد حديثة وذلك لتمكين القارئ من التعرف على المستوى التي وصلت إليه الجماعات المحلية وكذا توجهاتها المستقبلية، مع الإشارة إلى أننا قمنا بدراسة حالات ميدانية سواء في إطار التدبير العمومي المحلي أو التدبير التشاركي، وذلك بالإطلاع على مختلف الاتفاقيات الموقعة بين الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية وكذا بين الجماعات المحلية والقطاع الخاص في إطار عقود بناء أشغال معينة أو في إطار التدبير المفوضإن معالجة إشكالية التدبير الاقتصادي العمومي المحلي دفعنا إلى اعتماد خطة البحث تراعي الجوانب المتداخلة للموضوع.
وعليه فقد خصصنا القسم الأول لمعالجة الجماعات المحلية كإطار عام للتدبير 

الاقتصادي المحلي وذلك من خلال التطرق إلى مختلف الجوانب السياسية والقانونية المتحكمة في تطور أدائها وتوسعها وذلك في ارتباطها بمختلف المحددات المتحكمة فيها سواء الوطنية - بتبني مقاربة تكرس دور الجماعات المحلية في العمل التنموي - أو من خلال التحولات التي يشهدها العالم من الناحية الاقتصادية بسيادة العولمة وانفتاح الأسواق أو بانتشار حقوق الإنسان والديمقراطية.

ولقد انعكست هذه التداخلات على وظيفة الجماعات المحلية، بانتقالها من تدبير 

عمومي كلاسيكي إلى تدبير أكثر حداثة مرتبط أساسا بالفكر التشاركي والتعاوني.وسيشكل التطرق إلى وسائل الجماعات المحلية وكذا وظيفتها الاقتصادية ومختلف المحددات التي تتحكم فيها محور القسم الثاني، من خلال التعرف على الوسائل المادية والمتجلية أساسا في المالية المحلية والتخطيط المحلي ومدى مساهمة الجماعات المحلية في ميدان التعمير وإعداد التراب الوطني. لكن دون أن ننسى دور الموارد البشرية ركيزة التدبير الاقتصادي المحلي في ضمان نجاح الجماعات في العمل التنمويكما أنه باستعراضنا لأهم الإكراهات والصعوبات التي تواجه عمل وحداتنا الترابية نكون قد قطعنا خطوة مهمة لمعرفة الاختلالات، ومن ثمة البحث عن الحلول والمقترحات مستعينين في ذلك بمختلف التقنيات التي يقدمها مجال التدبير وبالتالي تأهيل الجماعات المحلية لتصبح بالفعل قاطرة للتنمية.

ليست هناك تعليقات